داء كرون والتهاب القولون التقرحي

منذ فجر التاريخ، بحث المرضى الذين عانوا من أمراض وأعراض مختلفة عن علاج لمرضهم. ومع مرور السنوات، اكتُسب المزيد من الخبرة حول استخدام الأدوية المختلفة، ومع تطوّر العلم، والطب الحديث حققت معرفة البشر قفزة كبيرة في هذا المجال. لم يعد تطوير الأدوية يتم صدفة، بل يحدث نتيجة عملية من التفكير والبحث العميق. مع تقدم العلم البشري والأبحاث، نتعلم كيف يمكن تطوير أدوية ناجعة ودقيقة أكثر.

 

الأدوية البيوليوجية هي مجموعة من الأدوية التي حقق تطويرها تقدما في السنوات الأخيرة. يجري الحديث عن أدوية تستند إلى البروتينات، التي هي جزيئات كبيرة ومركّبة. الدواء البيولوجي هو جسم مضاد غالبا، أي إنه قادر على التعرّف على جزيء معيّن آخر، الالتصاق به، وإلغاء نشاطه. تختار الأجسام المضادة هدفها بشكل محدد غالبا، وهي تلتصق فقط بالجزيئات ذات مبنى ملائم لمبناها، كما هو الحال مع المفتاح والقفل اللذين يكونا ملائمين. عندما نستخدم أدوية بيولوجية، نحن نُدخِل في الواقع إلى الجسم جزيء يعمل على هدف واحد محدد و "يرتبط" به. الأفضلية الرئيسية هي ألا تتضرر الجزيئات الأخرى التي لا تشكل هدفا للدواء.

 

ما هي الأدوية البيولوجية المُستخدمة لعلاج مرض المعي الالتهابي؟

المجموعة الأولى من الأدوية البيولوجية التي بدأت تُستخدم استخدام طبي سريري هي مجموعة الأدوية المضادة لـ ‏Tumor Necrosis Factor) TNF‏) - بروتين تفرزه خلايا الالتهاب ويشكل مرحلة حاسمة في تطوير العملية الالتهابية. تؤدي إعاقة الدواء لهذا البروتين إلى قطع سلسلة تطوّر العملية الالتهابية وإلى إيقافها. تُعطى هذه الأدوية عبر تسريب وريدي أو بالحقن تحت الجلد، وتؤدي إلى رد فعل سريري جيد لدى نحو %60 من المُتعالجين.

هناك عائلة أخرى من الأدوية البيولوجية وهي عائلة الأدوية المضادة للإنتچرينات (integrins). تحدث العملية الالتهابية لأن خلايا الالتهاب (خلايا الدم البيضاء) تدخل إلى النسيج وتهاجمه. لكي تدخل هذه الخلايا إلى النسيج، عليها أن تخترق جدار الوعاء الدموي، أن تدخل إلى النسيج ذاته، ثم أن تُحدث عملية التهابية. تعيق أدوية من نوع مضادات الإنتچرينات قدرة خلايا الدم البيضاء على الخروج من الوعاء الدموي وهكذا تمنع وصولها إلى النسيج وهدمه. تُعطى هذه الأدوية عبر تسريب وريدي وتؤدي إلى رد فعل جيد لدى نحو %60 من المُتعالجين.

المجموعة الثالثة من الأدوية البيولوجية المُستخدمة لداء الأمعاء الالتهابي هي مجموعة الأدوية المضادة لـ ‏IL12/IL23) Interleukin‏). كما ذُكر آنفا، خلايا الدم البيضاء هي التي تسبب العملية الالتهابية وذلك من خلال دخولها إلى النسيج وتدميره. هناك في الجسم آلية مركّبة تنشّط هذه العملية وتؤدي إلى "تجنيد" خلايا الدم البيضاء التي تتجمع في منطقة الالتهاب. تصل خلايا الدم البيضاء من نوع معيّن إلى منطقة الالتهاب، وتفرز بروتينات تدعى السيتوكين (cytokine). يؤدي كل سيتوكين إلى إفراز السيتوكينات الأخرى التي تفعّل خلايا الدم البيضاء. تعيق مضادات IL12/IL23 السيتوكينَين IL12‎‏ و IL23، وهكذا تفصل السلسلة وتمنع تجنيد خلايا الدم البيضاء الأخرى. في المرة الأولى، تُعطى هذه الأجسام المضادة عبر تسريب وريدي، ثم بالحقن تحت الجلد، وهي معدّة في هذه المرحلة لداء كرون تحديدا. ما هي الأعراض الجانبية للأدوية

ما هي الأعراض الجانبية للأدوية البيولوجية؟

قد يؤدي كل دواء نستخدمه تقريبا إلى ظاهرة لم نخطط لحدوثها مسبقا لدى نسبة قليلة من المُتعَالجين. يجري الحديث أحيانا عن ظاهرة إيجابية، مثلا، تحسّن أدوية معيّنة معدّة لعلاج السكري أعراض مرض القلب أيضا؛ يجري الحديث أحيانا عن ظاهرة عديمة الأهمية، مثلا: تؤدي مضادات حيوية معيّنة إلى تغيير في لون البول، ويجري الحديث أحيانا عن ظاهرة مقلقة وذات أهمية طبية، مثلا، حدوث ضرر في الكبد أو الكلى. من الجدير بالذكر أنه على أية حال، تحدث الأعراض الجانبية لدى نسبة ضئيلة فقط من المُتعالجين. بالمقابل، عند استخدام مواد ليست أدوية معروفة، ليس معروفا ما الذي قد تُحدثه المادة، لهذا ليس معروفا ما هي الفحوص التي على المُتعالجين اجتيازها للتأكد من عدم حدوث ظاهرة غير مرغوب فيها.

تحدث الأعراض الجانبية الأكثر انتشارا للعلاج البيولوجي لدى %10 تقريبا من الحالات، وهي تتضمن التهاب المسالك التنفسية العليا، صداعا، تعبا، وآلاما في البطن. تكون هذه الأعراض طفيفة وتزول غالبا، ولا تتطلب إيقاف العلاج.
كما هي الحال مع أية مادة نتعرض لها، قد تؤدي الأدوية البيولوجية إلى رد فعل تحسسي أيضا. قد يتضمن رد الفعل لسعا في موقع الحقن، طفح جلدي، حكة، آلاما في المفاصل، ضيقا في التنفس، وانخفاض ضغط الدم. لهذا السبب، في حال إعطاء الدواء عبر تسريب وريدي يُعطى التسريب في موقع تتوفر فيه متابعة طبية، وفي حال حدوث رد فعل تحسسي يمكن علاجه فورا.

ضعف جهاز المناعة هو ظاهرة أخرى ترافق العلاج بالأدوية البيولوجية. في الواقع، يجري الحديث عن نتيجة مباشرة لآلية عمل الدواء. بما أن أمراض الأمعاء الالتهابية تحدث نتيجة أداء غير سليم في جهاز المناعة الذي يهاجم الجهاز الهضمي بدلا من أن يهاجم مُسببات التلوث، فإن علاج أمراض الأمعاء الالتهابية موجّه ضد جهاز المناعة وهو يشمل ضبط النشاط المناعي المفرط. استنادًا إلى ذلك، نتيجة ضبط جهاز المناعة هذا، في حال أصيب المُتعالجون بمرض تلوثي أيا كان، قد يكون التعافي منه أصعب أحيانا. هناك خوف بشكل خاص من تفاقم داء السل بعد إعطاء علاج بيولوجي، لهذا قبل بدء العلاج هناك أهمية للتأكد أن المتعالج ليس حاملا لداء السل بشكل خفي. إذا كانت هناك علامات تشير إلى ذلك حقا، يجب إعطاء علاج مضاد للسل قبل بدء العلاج بالدواء البيولوجي.

تشير الأبحاث إلى أن العلاجات البيولوجية قد تؤدي إلى ارتفاع معيّن في انتشار حالات السرطان الخبيث من أنواع مختلفة.

احتمالات النجاح للعلاج بأدوية بيولوجية

يقاس رد الفعل للعلاج بالدواء البيولوجي عبر عدد من المؤشرات. نود أن نعرف كم من المتعالجين شعروا بتحسن حالتهم، كم منهم دخل المرض لديهم في مرحلة الخمود، وكم من بين المرضى الذين استجابوا جيدا استمر رد الفعل لوقت طويل، هل تضمن تحسّن شعور المريض تحسن التهاب المعي أيضا، وكذلك ما الذي يمكننا القيام به لتحسين نتائج العلاج.

أدت الأبحاث المختلفة التي أجريت على الأدوية البيولوجية إلى نتائج مختلفة كانت متعلقة بالدواء ذاته، بمدى حدة المرض، وبالطريقة التي أجري حسبها البحث. الموضوع واسع ولا يمكن التطرق هنا إلى جميع الأبحاث الكثيرة التي أجريت في هذا المجال، ولكن يمكن القول إن نسب نجاح العلاج على الأمد القصير تراوحت بين %40 إلى %60. كذلك، يبدو أن نسبة عالية من المُتعالجين الذين يستجيبون جيدا في المرحلة الأولى يواصلون الحفاظ على رد الفعل طوال سنوات من العلاج. ثمة مُعطى هام آخر تم تعلمه من الأبحاث وهو الحاجة إلى إعطاء الأدوية بشكل منتظم، إذ أن الاستراحات الكثيرة قد تؤدي إلى فقدان رد الفعل. إذا كنا نرغب في تحسين احتمالات نجاح العلاج، يمكن دمج أدوية محبطة لجهاز المناعة عند إعطاء علاج بيولوجي، إذ يمكن في جزء من الأدوية قياس مستوى الدواء في الدم ووفق ذلك يمكن توجيه الجرعة المرغوبة. رغم هذا، تبيّن أن إضافة دواء معدّل مناعي (immunomodulator) إلى مضادات الإنتچرينات لا تشكل سببا مؤثرا في نجاعة العلاج، وأنه يمكن الحصول على رد فعل شبيه دون هذه الإضافة. هناك بيانات مشجعة تم التوصل إليها من فحوص التنظير لدى المُتعالجين بعد العلاج، الذين أظهر %40 منهم التعافي من التهاب المعي.

للإجمال، في العقود الأخيرة مع تطوّر الأدوية البيولوجية، شاهدنا تغييرا دراماتيكيا في العلاج، وفي مجرى أمراض الأمعاء الالتهابية، وبحوزتنا الآن جيل جديد من الأدوية الناجعة والآمنة للاستخدام. ما زالت الطريق طويلة حتى الوصول إلى نسب أعلى من رد الفعل والتعافي الفعلي للمرض، ولكن العلاج القائم يسمح لمرضى كثيرين باتباع نمط حياة عادي وطبيعي تماما.

 

تاريخ آخر تحديث: